الخميس، 1 نوفمبر 2018

تجربة المستقبل من الماضي ؟ تجربة الماضي من المستقبل ؟


دراسات قرآنية
(الزمان في القرآن الكريم) 
تجربة المستقبل من الماضي ؟
تجربة الماضي من المستقبل ؟

الأستاذ سعيد الشبلي



     من بين سائر الأفكار الفلسفية تبرز فكرة الزمان كأحد أخطر الموضوعات التي تناولها الإنسان بالبحث و التفكير، و ذلك راجع لا إلى طبيعتها التجريدية العقلية فحسب، بل أيضا إلى أنها كالأسد بين حيوانات الغاب، قادرة على الهيمنة على أغلب الأفكار الأخرى؛ أو كالبحر الذي تؤول إليه مياه أغلب الأنهار المحيطة، في قدرتها العجيبة على اجتياف أغلب الموضوعات الأخرى لتجعلها وجوها أخرى من عملية قراءة معنى الزمان وحقيقته.
    إن التفكير في الألوهية أو في الإنسان أو في معنى الوجود و معنى الحياة، مؤهّل لأن ينقلب بسرعة عجيبة إلى تفكير في الزمان و تفحص لإشكالياته العجيبة، حتى أنه يمكن التأكيد أن معضلة الحقيقة هي في أحد أهم وجوهها معضلة الزمان، الأمر الذي يجعل من أي فتح يناله الإنسان ضمن فهمه للزمان و وعيه بحقيقته، فتحا فلسفيا شاملا لا بل فتحا علميا و كونيا أيضا.
     لقد استطاع "الزمان" أن يحتنك مشكلة المعرفة كما لم يحتنكها موضوع آخر و تمكّن من أن يهيمن عليها كما يشاء فيعضلها إعضالا يذهب بجِدّتها، و يجعل كل الكلام في الوعي و الوجود كلاما مجترا معادا، أو أن يحرك راكد القول و ساكن العقول مستنهضا الجميع لإعادة صياغة نظرياتهم و مقولاتهم بالكلية إذا ما أفرج عن بعض حقائقه و أفصح عن بعد من أبعاده. هل يمكن القول أن الإنسان إذ يفكر في شتى الموضوعات الأخرى لا يفعل سوى أن يتحايل على معضلة الزمان ؟ أم أن تقسيمه لهذا الزمان إلى ماض و حاضر و مستقبل إظهار لهيمنته و وعيه، أم كشف عن عجزه و لا وعيه ؟  
     إن تأسيس الكلام في معنى الزمان يعني المخاطرة بفتح أبواب العقل على اللاعقل، و الإسراع بإحالة الحقيقة إلى مجال الأسطورة و الخيال. من هنا كان على أي كلام في الزمان أن يتستر و أن يهرب من المواجهة المباشرة لسؤال المفهوم لكي يستمع إلى المعطيات المباشرة لأثر الزمان، أي للتجربة باعتبارها أتون كل شيء و مصداق كل كلام.
     لذلك اخترنا في سبيل المقاربة باكتشاف علاقة ما تجمع بين أبعاد الزمان، أن نتتبع فصول تجربة شخصية مثيرة. أما الشخصية فيوسف النبي عليه الصلاة و السلام، و أما التجربة فانتقاله بالجهد والوعي من الطفولة إلى الرجولة، من البداوة إلى الحضارة، أو من رؤيا رآها و هو بعد طفل صغير فلم يفقه لها معنى، إلى تأويلها الذي عاينه و هو كهل راشد مستنير.
     كيف نرى المستقبل في الماضي ؟ و كيف نواجه الماضي في المستقبل ؟
     ثم و في تحليل أخير، كيف يجتمع الزمان في وعي عقل تأويلي حي؟ ذلك ما سنسعى إلى استشرافه من خلال متابعة التجربة اليوسفية في أهم مراحلها و محطاتها.



1 _  الماضي البعيد: تأسيس التجربة: كشف الحروف وطمس المعنى
     جاء في القرآن الكريم: "إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين. قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين. و كذلك يجتبيك ربك و يعلمك من تأويل الأحاديث و يتم نعمته عليك و على آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم و إسحاق إن ربك عليم حكيم.([1])
     هذه الرؤيا الشديدة الإيحاء و الرمزية صدمت وعي الصبي الصغير الذي لم يستطع أن يفقه لها معنى رغم أن كل ما فيها يدل على أنها بالتأكيد ذات معنى عميق، فانطلق بها إلى والده النبي يعقوب عليه السلام. و لقد كان يعقوب من العلم و من الحكمة على درجة عظيمة بحيث استطاع أن يتفطن إلى أن الرؤيا بشارة عظيمة لابنه و علامة على اجتبائه و اصطفائه من دون إخوته، إلا أنه لم يتجاوز أن بشّره بخير يناله في مستقبل أيامه و لم يزد على ذلك شيئا سوى أن حذره من ذكر رؤياه لإخوته حتى لا يكيدوا له كيدا. أما تأويل الرؤيا تأويلا تفصيليا فلم يكن من مهمة النبي يعقوب الذي التزم حده واكتفى بتبشير ولده الصغير و تحذيره مستيقنا أن أمر تأويلها سوف يكون مهمة يوسف نفسه، و أنه وحده المطالب بحل ألغاز هذه البشارة العجيبة.
    إن حياة يوسف عليه السلام سوف تكون سعيا بالجهد و بالوعي لتأويل هذه الرؤيا التي دهمته و هو بعد طفل صغير، و سوف يرتبط مستقبله الشخصي لا بل و مستقبل بني إسرائيل (أبناء يعقوب النبي عليهم السلام)، بانكشاف إحداثيات و حقائق هذه الرؤيا التي ستمثل بداية من لحظة انعتاقها من الغيب الأول ماضيا لا يفتأ يزداد ابتعادا و مستقبلا لا يفتأ يزداد اقترابا.
     كان على يوسف عليه السلام أن يخوض في سبيل تأويل رؤياه ثلاث تجارب، و أن يعبر ثلاث رؤى لتحصيل ثلاثة مستويات من الوعي هي التي ستؤهله لاختراق الظلمات بكل أنواعها للوصول إلى النور الذي تندمج فيه الحقائق الأصلية لثلاثية الكواكب و الشمس و القمر، أي الحاضر و الماضي والمستقبل.
2 _  نحو المستقبل: من الظلمات إلى النور
   
 أ – غيابات الجب: حديث البعث الآخر
    جاء في سورة يوسف: "لقد كان في يوسف و إخوته آيات للسائلين. إذ قالوا ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا و نحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين. اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم و تكونوا من بعده قوما صالحين. قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابات الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين".([2]). " فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا و هم لا يشعرون. و جاؤوا أباهم عشاء يبكون. قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق و تركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب و ما أنت بمؤمن لنا و لو كنا صادقين. و جاؤوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون. وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشراي هذا غلام و أسروه بضاعة و الله عليم بما يعملون. و شروه بثمن بخس دراهم معدودة و كانوا فيه من الزاهدين." ([3]).
     هكذا ألقى بالغلام الصغير إخوته في غيابات الجب و كانوا له من القالين. فأصبح في موقعه ذاك في أسفل سافلين، حتى إنه لما جاءت السيارة و اكتشفه واردهم جعلوه بضاعة و شروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين. إن المعنى ينحط هنا إلى درجة الصفر تماما مثلما انحط الإنسان إلى أن أصبح بضاعة تباع و تشترى. أما الزمن الذي يناسب و يستوعب مثل هذا الوضع، فهو بدون أدنى شك زمن الغيبة و النسيان، أو زمن العدم و اللاشيء. "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا." ([4])
     هذا الزمن المنسي أو زمن الإنسان المنسي، هو الذي سيؤسس بعد حين من الدهر، و بعد سلسلة من التجارب الحاسمة، مرحلة البعث الآخر الذي سيكون تتويج التجربة و قمة اكتمالها و بلوغها منتهى مسعاها و آخر أجلها. قال الله تعالى ليوسف و هو في غيابات الجب: "و أوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا و هم لا يشعرون"([5]). و ذلك ما سيحدث بالفعل في مرحلة التمكين التي ستصبح فيها خزائن الأرض تحت حكم يوسف و تحت تصرفه، و التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله: "قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم. و كذلك مكنّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء و لا نضيع أجر المحسنين" ([6]).
      إن السقوط في غيابات الجب، ذلك الحدث الذي يمثل الماضي البعيد و الطفولة الأولى في حياة يوسف الصديق، صنع ذلك الانقلاب الكبير أو المستقبل الذي أصبح فيه هذا النبي يتبوأ من الأرض حيث يشاء. إن قوة الماضي هي التي تصنع إمكانات المستقبل، و تجربة الماضي تحكم أبدا على كل وعود المستقبل. أليس بقدر ضيق غيابات الجب جاءت سعة الآفاق و تبوأ يوسف من الأرض حيث يشاء ؟
      إن تجربة المستقبل تبرز هنا و كأنها التعويض و المقابل الضروري الذي يلغي نقص و حرمان وضيق تجربة الماضي. و ما بين نقص الماضي و كمال المستقبل، يبدو و كأن الوجود يعيد من جديد تركيب إحداثياته بحيث يعيد التوازن إلى الطاقة الموزعة فيه و التي ألقيت بصفة عشوائية في لحظة أولى، أو قل في لحظة غفلة أولى
ب – امرأة العزيز: الحياة الدنيا: تجلي الزمن الأول
     "و قال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا. و كذلك مكنّا ليوسف في الأرض و لنعلّمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون. ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما و كذلك نجزي المحسنين. و راودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلّقت الأبواب و قالت هيت لك. قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون. و لقد همت به و همّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء إنه من عبادنا المخلَصين. و استبقا الباب و قدّت قميصه من دبر و ألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم. قال هي راودتني عن نفسي و شهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قُدَّ من قُبل فصدقت و هو من الكاذبين. و إن كان قميصه قدّ من دبر فكذبت و هو من الصادقين. فلما رأى قميصه قدّ من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم. يوسف أعرض عن هذا و استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين. و قال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين. فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن و اعتدت لهن متكأ و آتت كل واحدة منهن سكينا و قالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه و قطعن أيديهن و قلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملَك كريم. قالت فذلكن الذي لمتنني فيه و لقد راودته عن نفسه فاستعصم و لئن لم يفعل ما آمره ليسجننّ و ليكونا من الصاغرين. قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم." ([7]).
      كان على يوسف الصديق الذي أخرجه الله تعالى من غيابات الجب بعد أن زهد فيه كل شيء، أن يخوض أولى تجاربه و أخطرها، تلك تجربة الحياة الدنيا بكل ما وُظِّف فيها من شهوات و مخاطر وفتن. و لكي يمكّن الله تعالى هذا النبي من الوصول إلى ما أَهِّل له من إرث التأويل و علمه، اختزل تجربة الحياة الدنيا في موقف. و في تجربة مغلقة ثم البلاء المبين، و أقبلت امرأة العزيز على الفتى اليافع و غلقت الأبواب و قالت هيت لك.
     و كان على يوسف أن يواجه هذا الجسد الناضج المتبرج المستولي بحق الرعاية و الإيواء، المستقطِب بقوة الأنوثة الجميلة الحارقة. و لقد حاول الشاب أن يقاوم ما استطاع، فواجه العاطفة الملتهبة بنور القانون و النظام "قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون". إلا أن هذا الستار رغم قيمته و رغم مقدار الحقيقة التي فيه، لم يكن ليصمد أمام أهواء عاطفة و شهوة عاصفة بكل شيء. "و لقد همت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء إنه من عبادنا المخلَصين".
     ماذا رأى يوسف الصديق بالضبط ؟ و كيف استطاع أن ينجو من زمن الغفلة و النسيان لا بل زمن الضياع و التيه و الضلال، زمن الاستقطاب المطلق الذي أَخضعت له الدنيا جلّ مريديها، واستهلكت فيه هوية طالبيها ؟ ليس من السهل تأويل معنى قوله تعالى: "لولا أن رأى برهان ربه" إلا أننا نجازف بالـتأويل و الحديث عنه يدور، فنقول إن يوسف قد استطاع و بتأييد إلهي خارق، أن يخترق ظاهر المرأة (الجسد) المغوي المثير المتبرج بكل زينة، إلى باطنها المظلم القبيح الناطق بالضلال و الانحلال و الضعف و الانكسار. فلما رأى الظلمة الشديدة و شاهد النار الملتهبة التي انطوت عليها الأضلع، لم يكن منه إلا أن هرب من أتون لا مقدرة له عليه و لا رغبة له فيه.
     هل كان يوسف و امرأة العزيز هما المتقابلان المتواجهان ؟ أم كان العقل يواجه النفس يصد ظلمانيتها بنورانيته ؟
     و بنجاحه الباهر في مواجهة امرأة العزيز رغم ضعف ناصره و قلة حيلته و غربته عن الأهل والديار، استطاع يوسف أن يحظى بشهادة شاهد من أهلها، من أهل امرأة العزيز التي بدا ضلالها في حين ظهرت آيات عفته و بدت أنوار منعته و عزته. تلك الشهادة تحوي في مضمونها كل معنى التاريخ أو الزمن الدنيوي المحدود. ذلك أن الحياة الدنيا ما جعلت إلا من أجل أن يكتسب فيها الإنسان شهادة تعلن عن عفته و تؤكد تجاوزه لضعفه و غفلته. فإذا ما حصلت هذه الشهادة و لا تكون إلا من خلال خوض غمار تجربة لا مجال فيها للادعاء و النفاق، استحق الإنسان استحسان الرب الذي سوف يهيئه لمرتبة أخرى و لزمن آخر غير زمنه الأول.
     إن زمن الإنسان أزمان، كما أن حقيقته حقائق. فلقد حكم على هذا المخلوق بان يجمع أشلاء ذاته المبعثرة هنا و هناك؛ لذلك كان من صميم مأساته أن يرى زمانه و هو عين وجوده، ينقسم و يتوزع ما بين ماض و حاضر و مستقبل، و كلها أوهام.
   باختراقه بالوعي لجسد امرأة العزيز، لم يعد جسد مهما بدا من قوته و تبرجه و سلطته بقادر على أن يصمد أمام سلطة العقل اليوسفي المستنير. لقد أصبحت الأجساد بالنسبة إليه نصوصا مفتوحة تدل على باطنها عوض أن تخفيه، لا بل لم تعد جدلية الظاهر و الباطن ذات موضوع بالنسبة إليه، لقد أصبح الظاهر عين الباطن والباطن عين الظاهر، و تحطمت سلطة النص بانكشاف المنصوص لا خفاء فيه و لا زيغ  و لا ضلال.
    عندئذ أصبح يوسف صاحب فنّ التأويل و عِلْمه بدون منازع، و ذلك سر ربط الآيات القرآنية بين الحديث عن دخول يوسف قصر العزيز، و بين إرادة السماء في تمكينه من علم التأويل "و قال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا. و كذلك مكنّا ليوسف في الأرض و لنعلّمه من تأويل الأحاديث و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون".
     و لكي يتأكد هذا المعنى و تظهر آثار الاستنارة العقلية اليوسفية بدون لبس، تداعت النصوص على الشاب الذي نطق ظاهره بباطنه بل الذي ظاهره عين باطنه. فلأول مرة تقريبا و العلم لله طبعا، يتوحد الظاهر بالباطن توحدا يجعل منهما حقيقة واحدة الأمر الذي ذهلت له الأنفس و انهدت له الأراضي فأقبلت تلك الأنفس على شرفها و رفعة مقاماتها تسعى كل واحدة منها لنيل الأوطار و الظفر بالنور الخارق. إن نسوة المدينة و قبلهن امرأة العزيز، ما كن قادرات على الصمود أمام نور عقل باهر جذاب تحطمت أمامه كل أركان النفس فأصبحت هباء منثورا. "و قالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه و قطعن أيديهن و قلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم." ([8])
     و بتهافت النسوة على يوسف و اعتصامه، تبين أنه نور لا يقهر، و أن النصوص أصبحت بالنسبة له نصا واحدا مستهلك المعنى. إذ ذاك تربع على عرش المعنى، و أنهى بالاختيار مرحلة الحياة الدنيا بكل نزوعاتها و أهوائها و ترّهاتها و نطق بالحق فقال: "رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم" ([9]). هل معنى طلب الموت و هو عين السجن، أن الحياة الدنيا هي أيضا و هم و أن زمنها عرض زائل و ظل حائل ؟ لا شك أن يوسف الصديق كان له من الأسباب العميقة ما يجعله لا يجد في الدنيا موئلا لوعيه و لا مستقرا لعقله و موطنا أمينا لذاته. و من هنا خاف بالبقاء فيها من الطمس و الردّة "أصب إليهن و أكن من الجاهلين." لابد من زمن آخر إذن، زمن هو تجربة أخرى، إنه الموت .
ج – تجربة السجن: الموت أو الزمن الثاني
      "قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم. ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين." ([10]). دخل يوسف الصديق السجن دخولا اختياريا بعد أن استحبه على الوقوع في ظلمات الغواية و الضلال. فتبين بذلك أنه ينتصر للنور على الظلمات و للحقيقة على الباطل و أنه مع الجوهر الباقي الخالد في الذات الإنسانية حتى و لو زال الجسد الظاهر الفاني. و كل عملية تجاوز لبعد من أبعاد الوجود و العدم تمثل تجاوزا لبعد من أبعاد الزمن. إن مرحلة السجن هي تجربة للموت على مستوى رمزي؛ ففيه يستكين الجسد و تخمد الحواس و يسترخي الكيان الحسي في الإنسان حتى كأنه ميت أو يكاد. و في الوقت الذي سكن فيه جسده، كان عقل يوسف يشهد قمة لحظات انعتاقه و تحرره. فلقد أصبح الآن يرى بدون أدنى لبس و لا شك مدى ما وصل إليه من استنارة قلبية داخلية، استنارة جعلته يرى النور في الظلمة و السعادة في الشقاء و الحياة في الموت، أليس قد رأى النجاة في السجن ؟
     و في ظلمات السجن استفاد يوسف الوعي الثاني المطلوب لكمال العقل و استنارته، و الذي لا غنى عنه للوصول إلى معرفة الحقيقة على سبيل الكمال. هذا الوعي الجديد هو وعي بالموت الذي لا إمكان لتحصيله إلا عبر خوض تجربة الموت. فبقدر ما كان الجسد اليوسفي يتخلص من آفات الاستقطاب و يأمن من مخاطر الاستلاب الدنيوي العجيب، كان روحه (عقله) يتحرر، و كان يتهيأ بذلك لتحقيق رؤية شاملة و وعي مكتمل. و كدليل على أنه قد أحاط خبرا بعلمي الموت و الحياة معا، دخل معه السجن فتيان رأى كل واحد منهما رؤيا كان يوسف الصديق مستعدا تمام الاستعداد لتأويلها وكشف خفاياها.
     "و دخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا و قال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين. قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله و بالآخرة هم كافرون. و اتبعت ملة آبائي إبراهيم و إسحاق و يعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا و على الناس و لكن أكثر الناس لا يشكرون. يا صاحبي السجن، أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار. ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون. يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا و أما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان. و قال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين."([11]). أما الفتيان اللذان دخلا مع يوسف السجن فقد كانا رمزين للقوتين اللتين زُوِّد بهما قوة الحياة و قوة الموت، و للوعي الشمولي الذي أصبح يتحرك به و ينظر من خلاله إلى الوجود: الوعي بالحياة و الوعي بالموت، هذا الوعي الذي يعني أيضا الهيمنة المعرفية على الماضي وعلى المستقبل معا، على النص و على المعنى معا، على اللغة و على المضمون معا، على الرؤيا وعلى التأويل معا. لذلك خاطب يوسف الفتيين بكل ثقة و يقين مؤكدا أنه أحاط خُبْرا بخزائن الماضي والمستقبل، و أنه ضمن هذا المجال و في حدود هذه التجربة التي جمعت ثلاثتهم في السجن، قادر على أن يجعل ليلهم نهارا و مستقبلهم حاضرا ماثلا بالوعي بين أيديهم.
     كان أحد الفتيين صندوقا و خزانة للزمن الأول و للوعي الأول الدنيوي العابث اللاهي "قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا"؛  فأجابه يوسف: "أما أحدكما فيسقي ربه خمرا". إن الساقي الذي يملأ الأقداح في مجلس الأنس و اللهو، هو رمز فاضح للدنيا المقبلة على روادها تسكرهم بوهم يزول لأنه رهين زمن يزول هو زمن بقاء أثر السكرة على العقل. إن الزمن الدنيوي هو الزمن الأول و اللحظة الأولى التي ما إن تشتد و تتهيأ للبقاء حتى تصبح أياما خالية لا سبيل إلى استعادتها بحال. أليس ذلك حال الزمان الأرضي الذي يتآكل بحسب قدر رهيب يجعل من كل لحظة فيه مدبرة إلى الماضي أكثر مما هي مجسدة للحاضر. إن الماضي لا يكاد يترك للحاضر معنى في حياتنا الأرضية الدنيوية هذه، بل إن الحاضر ليس بالنسبة له سوى و هم لا يكون.
     أما الفتى الثاني، فكان خزانة للزمن الثاني الذي يمثل انقلابا على الزمن الأول و صَلبا له على أعتاب الحقيقة المطلقة الأبدية. "و قال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه... الآية"  أوّله يوسف بقوله "و أما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه... الآية ".  
     إن الصلب علامة الانقلاب و التغير في الأحوال و الأطوار، و لعل الطير أن تكون علامة على العالم الملكي الروحاني الذي سينفتح عليه الإنسان بإقباله على الموت و إدباره عن الحياة. إن الموت هو اللحظة الثانية في حياة الإنسان و لكنها ليست اللحظة النهائية فإن الطير ما أكلت إلا من رأسه و لم تأكل رأسه كله. إلا أن هذه اللحظة على نسبيتها قادرة على أن تصلب الزمن الأول على أعتاب النسيان و أن تجعل منه زمنا غابرا و أثرا دارسا ماضيا.
     إن الفتيين إذن، يمثلان مرآتين من مرائي الزمن، مرآة تكشف عن الماضي و مرآة تكشف عن المستقبل. و كان يوسف عليه السلام بمثابة المرآة الثالثة الجامعة بين حقائق المرآتين معا أي بين الماضي و المستقبل معا. فالماضي و المستقبل يلتقيان في الوعي ([12]) ليصنعا الحقيقة التي لا تشرق إلا ضمن زمن خاص و زمن الحقيقة كلي لا ماضي فيه و لا مستقبل.
      إن زمن الحقيقة هو أيضا زمن الذات، فالذات الإنسانية لا تعطي كل أبعادها و لا تصرح بتمام معناها في ماضيها فقط و لا في مستقبلها فقط أي في حياتها و موتها بل هي فوق الحياة و الموت. ذات خالدة باقية تخترق الحدود و تهتك كل الأستار([13]).
    بم تم ليوسف الصدّيق الجمع بين الوقتين (الماضي و المستقبل) ؟ و بأي قوة استطاع دمج الوعيين (الحياة و الموت) ؟ و الجواب أنه قد تمكن من هذا الجمع و الدمج و الضم بقوة التوحيد التي إنبنى عليها عقله و التي حملها عقيدة ثابتة لا يتزحزح عنها قيد أنملة. و لقد صرح بعقيدته هذه لصاحبي السجن. "يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار. ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألاّ تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون." ([14]).
    إن توحيد الرب الواحد هو الذي يؤسس العقل الموحد الذي يقدر على تجاوز آفات انكسار الزمان إلى حاضر و مستقبل، و تشظّي الوعي و انفجار الكيان.

3– تجربة الماضي في المستقبل وتجربة المستقبل في الماضي: رؤيا النجاة و اكتمال الوعي
     "و قال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون. قالوا أضغاث أحلام و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. و قال الذي نجا منهما و ادّكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون. يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون. قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون. ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون. ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون." ([15])
     بعد أن شهد يوسف الصديق تجربة الحياة الدنيا في زمن اللهو و العبث و النسيان و الذي انتهى بفراره فرارا كشف عنه صراعه مع امرأة العزيز التي لم تجد بين يديها سوى قميصه الذي قدّته من دبر فكان شهادة على إدباره عنها و إقبالها في المقابل عليه، دخل تجربة السجن التي خمد فيها كيانه فانطوى ذكره و أمّحى اسمه بانحجاب رسمه، و انهدّ كيانه، و انتهى زمن إمكانه، فلم يعد يقدر لنفسه على شيء حتى أنه لما أوصى أحد الناجين من الفتيين بذكره عند مولاه لم يذكره "و قال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين".
    و بالتجربتين معا، تجربة الحياة و تجربة الموت، انفتح السبيل أمام تجربة الحرية و الانعتاق وذلك عبر اكتساب يوسف الصديق للحقيقة المتمثلة في الوعي الثالث التأليفي بين الوعيين الأولين، وعي هو فوق الحياة و الموت، هو وعي النجاة.
    هذا الوعي الجديد التأليفي هو بعث للذات يمكنها من السيطرة الكلية على لعبة الحياة و الموت، على الماضي و المستقبل، على حديث الجدب و حديث الخصب. لقد رأى الملك و هو صاحب الزمان، سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات. و استفتى الملأ فقالوا أضغاث أحلام و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. كانت رؤيا عجيبة بل كانتا رؤيتين مندمجتين في رؤيا واحدة، و كانت ستصبح نصّا منسيا مهدور المعنى لولا أن المؤوّل القادر على عبور الأراضي السبع و السماوات السبع بوعيه ثم النفوذ من ورائها إلى سدرة المنتهى و باب الخلاص كان موجودا أيضا و جاهزا لاستعمال قوته التي لا تقهر و التي لا يقف أمامهما ماض و لا مستقبل. إنها قوة الحقيقة المتجاوزة للزمان، و قوة الغيب المهيمن على الشهادة، و قوة التأويل المستولي على النص، القادر على رؤية آخره في أوله و أوله في آخره.
    كان على المصريين بمقتضى الرؤيا، أن يهيئوا و أن يعدّوا من بدئهم لمعادهم، و من خصبهم لجدبهم، و أن يمارسوا واقعهم بروح مستقبلهم، و أن يبنوا مستقبلهم انطلاقا من حاضرهم. فلقد استدار زمانهم و قابلت سنوات جدبهم سنوات خصبهم و لم يعد لهم من سبيل للنجاة إلا بالمزاوجة بين سبع سني الحياة (الخصب) و سبع سني الممات (الجدب)، و إثر ذلك فقط سوف يأتيهم عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون.
     و عبر التأويل الذي يستمد من خزانة الحقيقة، تحققت نجاة ثلاثية الأركان. فلقد نجا شعب مصر وما أحاط بها من قبائل البدو الرعاة من آفات المجاعة المهلكة. و نجت رؤيا الملك من الضياع والاندثار بحصولها على تأويلها، و نجا يوسف الصديق بخروجه من السجن و استيلائه المظفّر المشهود على خزائن الأرض: "و قال الملك إيتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم. و كذلك مكنّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء و لا نضيع أجر المحسنين" ([16]).
     إن مرحلة التمكين في الأرض و التي تحققت بعد تجارب مضنية و جـــهاد مـــرير خاضت فيه الذات بكل وعيها و بكل كيانها تحديات مدمرة، و تجاوزت مهالك و مطبات قاتلة، هي حاضر يوسف الصديق، و هي حداثته التي لا تنتهي لأنها نصره الذي أنجزه و صنعه بتأييد و عون من ربه. إن الماضي و المستقبل كليهما يلتقيان عبر التجربة في زمن ثالث ممتد امتداد الأبدية هو الحاضر الذي يستوعب الذات استيعابا كاملا لأنه يظهرها بكلية وعيها و كلية وجودها.
    إن الزمن المطلق هو الذي يستوعب الإنسان المطلق (الكامل). و حديث الإنسان الكامل حديث بعث لن يتهيأ إلا بعد خوض تجربتي الحياة و الموت. لذلك كان الحاضر أبدا حداثة مفقودة، تماما مثل الذات الكاملة و الوعي الكامل اللذين يبقيان بالنسبة للإنسان أملا مطلوبا و حلما منشودا يضحي في سبيله بماضيه و مستقبله، بحياته و موته. أليس الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقذف بذاته على أعتاب الموت طالبا ما وراء الموت؛ تماما مثلما قذف يوسف الصديق بكيانه في السجن طلبا لزمن التمكين ورفضا لزمن الاستلاب و سعيا في سبيل تحقيق الوعي الجمعي و نفي الوعي النسبي المتشظي.
4     _ ختم التجربة: طمس الحروف و ظهور المعنى أو: عود على بدء
     "فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه و قال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين. و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا و قال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا و قد أحسن بي إذ أخرجني من السجن و جاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني و بين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم " ([17]).
     لقد آبت الرؤيا إلى تأويلها إذن مثلما آب يوسف الصديق إلى أهله أو آب أهله إليه، فآب الماضي إلى المستقبل، و آب المستقبل إلى الماضي، و ظهر في الكهولة ما بطن في الطفولة. ذلك ما يوحى به لقاء يوسف بيعقوب عليهما السلام بعد التجارب العاصفة التي آلت على نفسها أن تطهّر قلب الصبي الصغير و أن تستصنع منه مخلوقا نورانيا بإخراجه من ظلمات الجب و الغواية و السجن. و من خلال مواجهة الظلمات كان يوسف عليه السلام يزداد استنارة و وعيا و طهارة و براءة. و في خضم التجارب فقد يعقوب نور عينيه و بقي مع ذلك يتحسس من أخبار يوسف و يأمل أن يلقاه. و كان أن بعث يوسف بقميصه إلى أبيه الذي وجد ريحه، فلما ألقي على وجهه ارتد بصيرا.
    إن القميص الذي حاكته التجارب هو الزمن الحقيقي، الزمن المؤثر الفاعل، زمن يصنعه الإنسان بعرقه و دمائه و اعتصامه و استشهاده "قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين. اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتي بصيرا و أتوني بأهلكم أجمعين. و لما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون. قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم. فلما جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم اقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون" ([18]).
    إن القميص الذي لطخ أولا بدم كذب، ثم قدّ من دبر يصبح الآن علامة نورانية و أداة تنوير و بعث و إحياء و إنقاذ. إن الماضي و المستقبل يلتقيان معا في تجربة النور. إن الأزمان أنوار إذا جمعت، وأسرار إذا اندمجت أعطت الحقيقة و ألغت الباطل. و هي في المقابل، أوهام إذا تمزقت و استقلّ أولها عن آخرها.
    إلام كانت رؤيا الملك ستَؤول لو لم تجد مُؤوّلها؟ و قبل ذلك ماذا كانت رؤيا يوسف ستعني لو لم تقم تجاربها لتعطي تأويلها و تخرج مشهدها و تبرز حقيقتها. إن الماضي بذرة و المستقبل ثمرة، والواصل بينهما التجربة. فما لم تقم التجربة فلا صلاح للبذرة و لا إمكان لنموها. و الثمرة منطوية أصلا في بذرتها، فحبة الشعير لا تعطي إلا شعيرا. و البذرة لا معنى لوجودها إن لم تصبح ثمرة. تلك خلاصة علاقة يعقوب بيوسف و يوسف بيعقوب. فلا غنى ليوسف عن يعقوب لأنه حينئذ يفقد عقيدته التي حفظتها ملة آبائه، تلك العقيدة التي عصمته و حفظته من الاندثار عندما واجه و هو الوحيد الشريد الغريب، مجتمعا سعى إلى استقطابه و الاستحواذ عليه و ابتلاعه. و لا غنى لحياة يعقوب عن يوسف لأن مستقبله ومستقبل أبنائه (بنو إسرائيل) مرتبط بما سينجزه يوسف من غزو لمواطن الحضارة حيث سيهيئ موطن قدم لأهله في مصر، و يخرجهم بذلك من مرحلة البداوة إلى مرحلة الحضارة.
    هل يملك الإنسان ماضيه أم له مستقبله ؟ أم أنه لا يملك أي واحد منهما ؟ الواضح من خـــلال هذه التجربة اليوسفية أن الإنسان لا يملك ماضيه أو لحظة بدئه و منشئه، إنه ينشأ و يتكون كما تكونت الرؤيا في ليلة طفل صغير.  و هو أيضا لا يملك مستقبله إلا بما هو شاهد يرى بأم عينه تصاريف الدهر و عجائب القدر المكتوب "قال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا".
    ماذا يملك الإنسان إذن في خضم الزمن المحكم الذي يتجلى كقدر محتوم و قضاء مبرم ؟ والجواب، إنه يملك تجربته، يملك شهادته، يملك أن يلعن الظلمات و أن يعشق النور. فإذا فعل ذلك كسب نفسه و طهّرها، و حافظ على معناه و عهده. إن الإنسان يواجه الزمن إذن في خضم التجربة، وحينئذ يتحداه الزمن، فإذا ما اشتغل به من حيث هو تصاريف و أقدار، تجارب و أخطار، ماض ومستقبل، تاه و اندثر و انقرض. أما إذا ما وعى أنه لا يملك من الدهر و في الدهر إلا نفسه، فحينئذ يُحكم بنيانه و يؤسس أركانه. ذلك أن الدهر وهْم بالنسبة لنا لا بالنسبة لنفسه.
    فإذا ما اشتغلنا بغير أنفسنا نسينا دهرنا و ضيعنا زمننا. فما مُكّن الإنسان إلا في ذاته، و ما تحكم إلا في كيانه، و ما اكتسب إلا قميصه، و على قميصه يكتب ما يشاء. فإذا ما عنّ لنا أن نسأل عن الزمن، فإننا لن نجد إجابة أصدق من تلك الآثار المكتوبة على القميص. فإذا ما خلص القميص وطهر و أصبح نورانيا، فإن زمننا النور. و إذا ما اسودّ و لم يتطهر بقي ظلمانيا. أليس هذا القميص هو عين الكتاب الذي يخرج يوم القيامة للإنسان فيلقاه أمامه منشورا ؟
     إن الماضي و المستقبل عــلامتان على أن الإنــسان قد وضع بين الزمان و الأبدية، بين النسبية و الإطلاق، بين الموت و الحياة، بين الجسد و الروح، بين الآخرة و الأولى... و التجربة التي يخوضها الإنسان و التي تتمثل في المسافة الفاصلة ما بين موته و حياته، هي الكاشفة عن موقفه من الثنائية. فإذا ألغاها عبر رؤية توحيدية، خلص إلى النور الكامن وراء الثنائيات بل المستخفي في ثناياها و أطوائها، و اهتدى إلى الوجود الواحد المتحد. و إذا ما أقام الثنائيات و عمّق الفروقات، ظهرت في كيانه الانشطارات وأصابت قميصه التمزقات. و التجربة تقول إن هذا القميص الإنساني لابد أن يتمزق ليظهر ما وراءه شاء الإنسان أم أبى؛ إلا أنه إذا تمزق من دبر كان شهادة للإنسان، أما إذا تمزق من قُبل فإنه يكون شاهدا عليه. إن لعبة الزمن هي في أعماقها لعبة السلطة. فالسلطة حيثما قامت و حيثما كانت، تنشئ زمنها و تخلق قانونها و تسعى إلى أن تجعلهما بديلين عن الأبدية و عن قانون الوجود العام. و من هنا كان الاعتراف بالزمن أبدا شرخا لا يقبله الوجود و لا يرضاه من التحق به. فمن شهد الأبدية لا يرضى بالزمان، و من عرف الحرية لا يرضخ للسلطان. يقول الشيخ محيي الدين بن عربي مؤكدا على وهمية الزمان:
            إن الزمان إذا حققت حاصله                         محقق فهو بالأوهام معلوم


           مثل الطبيعة في التأثير قوّته                         و العين منها و منه فيه معدوم
           به تعينت الأشيا و ليس له                           عين يكون عليه منه تحكيم ([19])
    إن الزمان ليس شيئا في ذاته إذن إلا بما هو مجال لإظهار تجربة الإنسان. إنه فرصتنا لتحقيق الأبدية و الولوج إلى الوجود المطلق. فالزمان باب المطلق لذلك ما قام للزمان معنى إلا لما خلق الإنسان. و بخلق الإنسان ظهر الشيطان، و هو رمز للبعد و الانقطاع و انشطار الوجود. فلما أعلن العصيان أعطاه الله فرصته فأسس الزمان. لذلك كان "الصراع بين الله والشيطان محتدما في الإنسان" ([20]) على حد قول علي شريعتي.
    إن تجربة الماضي و المستقبل بالنسبة للعارف تجربة استنارة أي اكتشاف للوحدة من وراء الضدّين، و اختبار للذات بامتحانها في مجالي الموت و الحياة، و رؤية واحدة للحقيقة سواء في الليل أو في النهار. و لذلك كان لابد من التأويل لأن الوجود نص لا ينكشف إلا عبر التأويل. إن التأويل استعادة للعهد الأول و للمشهد الأول و للحقيقة الأولى، و هو الآلة التي تمكننا من اختراق الزمان وصولا إلى ما قبله و ما بعده.
     إن الماضي و المستقبل استحالتان للحقيقة. تماما مثل الليل و النهار؛ فمن كان ليله كنهاره عرف نفسه، و من انقطع في ليله عن النهار فقد نفسه، و استهلكتها ظلمات الليل و النهار معا. و يلتقي سر الليل و النهار في الوجود. فالوجود الواحد المتحد هو الذي ينبه إلى حقيقة هذه الأحوال عبر ثباته واستقراره لأن الحال لا يكون إلا لثابت أو وصفا لموصوف. أما المتحول فإنه يلتحق بالحال و يصبح رمزا له و علامة عليه. لذلك طلب الإنسان العارف الوجـــود و تمسك بالخلود. و الوجود بالنسبة للإنسان ارتباط و اندماج . يقول ابن عربي متحدثا عن موئل و منتهى تجربة العارف "فارتبط آخر الأمر بأوله و انعطف أبده على أزله فليس إلا وجود مستمر و شهود ثابت مستقر" ([21]).
    شهود و وجود، أو شهود للوجود. هذا مختصر القول في الزمان و الوجود أو في الإنسان و الله، أو في الجسد و الروح... الوجود ثابت و الزمان شاهده، و الروح ثابت و الجسد شاهده. و الله ثابت والإنسان شاهده. و الله و الإنسان معا ثابتان و شاهداهما الماضي و المستقبل لكن لمن شهد الماضي ولمن شهد المستقبل ؟ عن هذا لا تسل بل جرّب.

[1] _  سورة يوسف ، الآيات : 4 _ 6 . نشير إلى أننا سنعتمد في تتبع أخبار يوسف عليه السلام على القرآن الكريم الذي احتفى بتجربة هذا النبي الكريم وخصص له سورة كاملة عنونها باسمه "سورة يوسف" وهي رواية شديدة الشبه برواية "العهد القديم" لنفس هذه القصة والتي جاءت في سفر التكوين من الإصحاح السابع والثلاثين إلى الإصحاح الخمسين. فقد جاء في سفر التكوين حديث عن هذه الرؤيا الأولى ليوسف عليه السلام على النحو التالي " وحلم يوسف حلما وأخبر إخوته فازدادوا أيضا بغضا له. فقال لهم اسمعوا هذا الحلم الذي حلمت. فها نحن حازمون
حزما في الحقل فإذا حزمتي قامت وانتصبت فاحتاطت حزمكم وسجدت لحزمتي. فقال له إخوته ألعلك تملك علينا ملكا أم تتسلط علينا تسلطا. وازدادوا أيضا بغضا له من أجل أحلامه ومن أجل كلامه. ثم حلم أيضا حلما آخر وقصه على إخوته فقال إني قد حلمت حلما أيضا وإذا الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدة لي. وقصه على أبيه وعلى إخوته فانتهره أبوه وقال له ما هذا الحلم الذي حلمت هل نأتي أنا وأمك وإخوتك لنسجد لك إلى الأرض. فحسده إخوته وأما أبوه فحفظ الأمر" سفر التكوين: الإصحاح السابع والثلاثون.

[2] _ سورة يوسف، الآيات : 7 _ 10
[3]  _  السورة نفسها، الآيات: 15 _ 17
[4]  _ سورة الإنسان ، الآية : 3
[5]  _  سورة يوسف، الآية : 15
[6]  _  سورة يوسف، الآية : 56
[7]  _  السورة نفسها، الآيات : 21 _ 34
[8]  _ سورو يوسف ، الآية : 31
[9]  _  السورة نفسها: الآيتان : 33 _ 34
[10]  _ السورة نفسها: الآيات : 33 _ 35
[11] _ سورة يوسف، الآيات : 36 _ 42
[12]  _ نقصد بالوعي، الفكر الذي ينضج عبر التجربة والمعرفة والحكمة اللتين تصهرهما التجارب والأحداث والابتلاءات أما قبل التجربة فالمعرفة مجرد أفكار وآراء.
[13]  _ يربط القرآن الكريم بين مستوى الوعي وبين الوقت أو الزمان. فالحياة الدنيا لحظة ابتلاء لوعي غافل، والموت لحظة ظهور الحقيقة؛ والبعث أو الحياة الأخرى لحظة هيمنتها ورسوخ سلطانها. والإنسان يتقدم في الوعي بمقدار ما يتقدم في الزمان،  وقمة الوعي لحظة انتهاء الزمان والدخول في ما وراء الزمان أي في الأبدية. أما المؤمن، فهو ذاك الذي يسعى إلى تحقيق كمال الوعي بالجمع بين الزمان والأبدية معا، أو بين الغيب والشهادة معا. جاء في سورة (ق) حديث عن هذه المعادلة التي تصل الوعي بالزمان :" أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد. ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما  توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد. إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد. ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد. وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد. ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد. وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد. لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد". ( سورة ق، الآيات : 15 _ 22 ).
[14]  _ سورة يوسف، الآيتان : 39 _ 40
[15]  _  السورة نفسها : الآيات : 43 _ 49
[16]  _ سورة يوسف ، الآيات : 54 _ 56
[17]  _ سورة يوسف ، الآيتان : 99 _ 100
[18]  _  السورة نفسها، الآيات : 92 _ 96
[19]  _ محيي الدين بن عربي ، الفتوحات المكية، بيروت، دار صادر، د ت، 1/ 291.
[20]  _ علي شريعتي، العودة إلى الذات، ترجمة ابراهيم الدسوقي شتا، القاهرة، الزهراء للإعلام العربي، ط 1، 1986، ص 366
[21]  _  الفتوحات المكية، 1/48

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق