الغيب و الشهادة
دور
عقيدة القيامة في تأسيس
بنيان
الإنسان
الأستاذ سعيد الشبلي
بسم الله الرحمن الرحيم
" أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عمّا
يشركون. ينزّل الملائكة بالرّوح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا
اله إلا أنا فاتقون. خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون. خلق الإنسان من
نطفة فإذا هو خصيم مبين "([1]).
هذه الآية الكريمة التي
افتتحت بها سورة النحل هي نذير من أهم النذر القرآنية الإلهية كما أنها إشارة إلى
حقيقة لعلها أهم الحقائق التي يجب على الإنسان أن يعلمها ولا يغفل عنها. و أمر
الله تعالى الذي أتى و الذي هو آت واحد فالذي أتى خلقه سبحانه و تعالى الكون بأمره
و كلمته وقوله له كن فكان على ما أمره و قدّره ربه سبحانه و تعالى، و ما هو آت هو
إفناؤه سبحانه وتعالى لهذا الكون و طيّه لكتابه المنشور و هو المعبّر عنه بالساعة
أو القيامة، و ما بين خلق الكون و ساعته، ساعة هي المدى و المدة المقدرة لبعث
المخلوق المبتلى و هو الإنسان لتمحيص فعله و اختبار حاله و التأكد من توبته، هل
صدق أم كان من الكاذبين.
قال تعالى: "أتى أمر الله فلا تستعجلوه"
و الفعل في صيغة الماضي دال على التأكيد و اليقين و هو بمعنى أنّ وعد الله تعالى آت
لا محالة. لكنه يعني أيضا أن أمر الله الآتي ليس منفصلا عن أمره الذي أتى فعلا؛ فنهاية الكون أو ساعته و قيامته إنما بدأت فعلا
لحظة بعثه و تكوينه. والكون كله ساع بأقصى طاقته إلى مستقره و هو ساعته. يقول
سبحانه و تعالى عن الشمس: "والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز
العليم"([2]).
و ما قاله سبحانه و تعالى عن الشمس يصدق على
كل ما سواها، فكل الكون على وجه اليقين يجري لمستقر له. و مستقره قيامته و ساعته. يقول
تعالى عن الشمس يوم القيامة: "إذا الشمس كورت. و إذا النجوم انكدرت"([3]).
فأمر الله تعالى آت إذن لا محالة لا بل هو قد أتى منذ خلق الله الكون و الذين
يستعجلونه هم في الأغلب الأعم جهلة غافلون لا يرون من آيات الله العظمى الدالة على
قرب القيامة وأنها قاب قوسين أو أدنى. قال الله تعالى لموسى عليه السلام : "إن
الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى، فلا يصدنّك عنها من لا يؤمن بها
واتبع هواه فتردى".
و إذا كانت الساعة التي حان أوانها قدرا
مقدورا و قضاء في كتاب الله مسطورا، و إذا كانت ختما لأنفاس هذا الكون الكبير
المحيط بنا نحن البشر الذين نسكن جزءا صغيرا منه و هو الأرض، فإن أقرب المشاعر إلى
المنطق أن نخشى هذا النبأ العظيم، و أن نشفق من وقوعه نحن الذين نكاد نجنّ من
الخوف إذا أصابنا زلزال بسيط، أو إذا نشب حوالينا حريق كيف سنقدر على معايشة زلزال
كوني ساحق ماحق تكوّر فيه الشمس و تنكدر
فيه النجوم التي لا يعلم إلا الله مدى
ضخامتها و هولها، و تسيّر فيه الجبال و تسجر
فيه البحار فتصبح نيرانا ملتهبة. تلك بعض أحداث هذه الساعة العصيبة التي سيهدم
فيها بنيان الكون القائم بأمر الله وحفظه، و هو هدم مشهود حق أن نرتجف و نحن نسمع
نبأ حصوله. أما إذا ما أعلمنا أننا سنكون عليه من الشاهدين، و أن بعضنا و هم
الكافرون سوف يكونون به من المعذَّبين، فإن أهل العلم منا جديرون بأن يخاصموا النوم إشفاقا من هذا الأمر الذي
سيحصل طال الزمان أم قصر. يقول تعالى: "اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ
الْكِتَابَ بِالْحَقِّ و َالْمِيزَانَ وَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ
قَرِيبٌ. يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا و َالَّذِينَ آمَنُوا
مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ
يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ"([4]).
و كيف لا يشفق المؤمنون من حصول هذا الزلزال
الكوني الهائل و من شهود لحظة موت الكون الذي آواهم و الذي طالما عاشوا في أكنافه
آمنين؟ كيف لا يشفقون و هم يعلمون أن الشموس و النجوم و الأقمار ستندثر و هي الكيانات الضخمة التي ليس أضخم
منها. إنّ سقوط نيزك صغير قد يوقع كارثة لمن نزل عليهم من أهل الأرض. فكيف إذا
تداخلت الكواكب وتحطمت و انكدرت الجبال الشمّ التي كان الناس يضربون بها المثل في
الثبات و الاستقرار؟
إن يوم القيامة يوم زوال الاستقرار و نهاية
السكينة الحاصلة بسكون هذا الكون، و ليس كالمسلم من يخاف زوال الاستقرار و نهاية
السكينة، لأن حصول السكينة يعد دائما أبدا علامة تأييد إلهي و ذهابها، علامة خذلان
و تعذيب. فأما الذين آمنوا و هم الذين يعلمون أن أجل الله آت لا محالة فهم مشفقون
من وقوعه لا سيما و قد جاءت الآيات القرآنية منبهة إلى أهواله وخطورة ما سيقع فيه.
يقول تعالى عن الأبرار: "يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا"([5]). و أما
الذين كفروا فإنهم لجهلهم يطالبون بوقوع هذا اليوم و يستعجلون وقوعه إذا حدثهم عنه
الأنبياء كما أنهم يستعجلون وقوع العذاب. و إن العذاب لواقع. و يوم يحيط بهم
العذاب و يرون النار التي توعدهم الله تعالى بها رؤية عيان، فحينئذ لن يغني عنهم كبرياؤهم
شيئا و لن تنفعهم ندامتهم و لا شفاعة الشافعين. هذا و إن الله تعالى ربّ الغيب و الشهادة
قد نبّه إلى أن أمر الساعة بالنسبة إليه و هو الآمر الناهي كلمح البصر أو هو أقرب
قال تعالى: "ولله غيب السماوات و الأرض و ما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو
هو أقرب إن الله على كل شيء قدير"([6]).
فالساعة هي النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون،
و لكنها بالنسبة لله تعالى موعد لن يخلفه، وهي غيب السماوات و الأرض الذي طواه
سبحانه و الذي سوف يحدثه في اللحظة التي
قدرها و قضاها. و بين الساعة والكون جدل
عميق شامل، فالساعة هي روح الكون و قلبه الذي عليه يدور. فالكون الذي خلق من ذرة
بل من جزء ملياري من الذرة أو فلنقل من نفخة واحدة ما فتىء يتضخم و يتسع إلى ما
شاء الله و هو في مزيد اتساع و تضخم، فإذا أتى أمر الله تعالى ارتد إلى ما كان
عليه أولا و كان ارتداده حثيثا رهيبا. فليس من الهين أبدا تصور مدى هول هذا
الارتداد و هذه العودة على بدء.
و من الواضح
أن العود على بدء هو أسلوب الله تعالى و منهجه في تنظيمه لحياة الإنسان ولحياة
الكون على السواء. يقول سبحانه و تعالى: "قل أمر ربي بالقسط وأقيموا
وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون. فريقا هدى وفريقا حق
عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون"
([7]).
يعلم الله تعالى هنا صراحة أن الإنسان سوف يحدث له عود
على بدء، وهذا ما دعي المؤمنون جميعا إلى الإيمان به و الاعتراف، أما الضالون
الذين اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله تعالى فهم ينكرون العود ناسين أنه لولاه
لما وجد البدء أصلا. فكل بدء من أجل العود كان. و العود أبدا هو روح البدء و جوهره
الذي عليه يدور.
و في سورة
الأنبياء تنبيه إلى ثلاثة أنواع من الرجعى، رجعى الإنسان إلى ربه، و رجعى الكون
إلى بدئه، و رجعى التاريخ إلى الورثة المؤمنين. يقول سبحانه و تعالى: "إن
الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون، لا يسمعون حسيسها و هم في ما اشتهت
أنفسهم خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر و تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي توعدون،
يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا
فاعلين، و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، إن في
هذا لبلاغا لقوم عابدين"([8]).
و في سورة يونس تنبيه إلى الرجعى و إلى بدء
الخلق و إعادته "إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده
ليجزي الذين آمنوا و عملوا الصالحات بالقسط و الذين كفروا لهم شراب من حميم و عذاب
أليم. بما كانوا يكفرون" ([9]). و في
موضع آخر من نفس السورة يجعل الله سبحانه و تعالى قدرته على بدء الخلق ثم إعادته
آية من آياته و معجزة من معجزاته التي لا يقدر عليها مخلوق: "قل هل من
شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون"([10]).
فالخلق كله إذن داخل ضمن نظام البدء و الإعادة،
و بدء الخلق تكوينه، و إعادته ساعته التي يؤول فيها إلى حقيقته النهائية. و ما بين
البدء و الإعادة يضطرب الكون، و تطرأ عليه شتى أنواع التحولات و التغيرات، و تكون
الإعادة بمثابة تطهير للخلق مما شابه بعد لحظة التكوين. كذلك تكون الإعادة رجوعا
بالخلق إلى أصله و حقيقته. و من هنا قلنا إن الساعة هي استعادة للبدء، للعهد الأول،
للحقيقة التي كانت و ما زالت باقية على ما هي عليه رغم التحولات التي تطرأ على
الخلق.
إن الإعادة هي استعادة كلمة كن لسلطانها على
الخلق بعد أن سرحه الرحمن و أطلق عنانه؛ و لذلك كانت الإعادة معجزة لا يقدر عليها
إلا الله وحده فهو وحده سبحانه يحتفظ بالشفرة الأصلية و الشريط الأول الذي كان من
نسيجه هذا الكون و هذا الإنسان. فالساعة هي قيامة ما أهلكه الدهر، و إنبات ما
أماته الجدب، و هي بنفس معنى الخلق الأول. قال تعالى عن الإنسان: "و ضرب
لنا مثلا و نسي خلقه قال من يحيي العظام و هي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة
و هو بكل خلق عليم"([11]).
فالعلاقة بين النشأة الأولى و النشأة الآخرة
علاقة جد متينة و قريبة و حميمة حتى إن القدرة البارزة في التنشئة الأولى تصلح لأن
تكون دليلا حقيقيا على إمكان النشأة الآخرة، و هذا ما نبه إليه القرآن الكريم و نسيه
الكافرون لجهلهم و انغلاق عقولهم. إن الساعة تجل لهيمنة الواحد الأحد على الغيب
تماما كما أن الخلق الأول تجل لهيمنته سبحانه و تعالى على الشهادة، لذلك قرن
الحديث عن وحدانيته التي لا تمس فقال سبحانه: "أتى أمر الله فلا تستعجلوه
سبحانه وتعالى عما يشركون". ثم قال بعد ذلك مبينا ملامح هذه الهيمنة على
العالمين: "و لله غيب السماوات و الأرض و ما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو
أقرب إن الله على كل شيء قدير" ([12]).
فالساعة و قيامها تجل لوحدانيته سبحانه و لقدرته على كل شيء، أما كونها تأكيدا
للوحدانية فلأن عودة الخلق على بدئه دليل على أن الخالق واحد في الحالين حال البدء
و حال الإعادة، و أن كل أنواع التحريف التي سادت على هذا المستوى لاغية لا تجوز.
إن الساعة هي تأويل الخلق و تأويل الكون، و يوم يأتي هذا التأويل يتبين أن الحقيقة التالية هي الأولى، و الأولى هي
التالية، و أن ما ظهر من اختلاف الحق متجليا في اختلاف الخلق، مظهر زائل و ظل
حائل، يقول سبحانه و تعالى: "و لقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة
لقوم يؤمنون، هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد
جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل
قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون"([13]).
ثم إن الساعة هي أيضا التأويل النهائي و الأخير
للقرآن الكريم الذي نزل إلى الأرض هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان، يقول
تعالى: "أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون
الله إن كنتم صادقين، بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله كذلك كذب
الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين"([14]).
هكذا نرى أن الجميع ينتظرون الساعة انتظار من
لا خلاص له إلا بوقوعها، فالكون لا كمال لدورته إلا بوقوع الساعة، و القرآن لا
انكشاف لكمال معناه و لا ظهور لكل حقائقه أو لحقيقته التامة إلا بوقوع الساعة، و الإنسان
بين هذا و ذاك لن يتحدد مصيره إلا بعد حسابه، وحسابه عند الساعة. إن الواحد الأحد
قد حدد الساعة أيضا موعدا لظهور سلطانه، و هتك ستر غيبه، و إظهار وجهه للخلق بلا
خفاء. فإذا تجلى سبحانه و تعالى للكون جعله دكا، و لنا في تجليه سبحانه و تعالى
للجبل لما طلب موسى عليه السلام أن ينظر إليه عبرة و دليل. جاء في سورة الأعراف:
"و لما جاء موسى لميقاتنا و كلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني و
لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا و خرّ
موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك و أنا أول المؤمنين"([15]).
أما الإنسان، فلن تكون
الساعة موعدا لسحقه و محقه بل سوف تكون موعد حلول وعد قيامته وظهور سره و حقيقته
بأنه من روح الله تعالى كان و إلى روح الله تعالى يؤوب، يستثنى من ذلك الكافرون
الذين جعلهم الله سبحانه و تعالى وقود النار التي سيؤوب إليها إبليس و جنوده من
طغاة كل أمة و ملة.
إن الساعة موعد لطي كتاب و نشر كتاب، أما
الكتاب الذي يطوى فهو كتاب الكون الذي أطاع ربه فأدى ما عليه طائعا راضيا مسلّما
أمره لخالقه. فالله تعالى يقبل عليه عمله و يختم أنفاسه بالرضا. يقول تعالى متحدثا
عن ختم أنفاس الكون يوم القيامة: "فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة، و حملت
الأرض و الجبال فدكتا دكة واحدة، فيؤمئذ وقعت الواقعة، و انشقت السماء فهي يؤمئذ
واهية"([16]).
و جاء في سورة الفجر: "كلا إذا دكت
الأرض دكا دكا، و جاء ربك و الملك صفا صفا" ([17]). و جاء
في سورة الانشقاق: "إذا السماء انشقت، و أذنت لربها و حقت، و إذا الأرض
مدت، وألقت ما فيها و تخلت، و أذنت لربها و حقت"([18]). و في
سورة الانفطار: "إذا السماء انفطرت، و إذا الكواكب انتثرت، و إذا البحار
فجرت، و إذا القبور بعثرت، علمت نفس ما قدمت و أخرت"([19]).
أما في سورة التكوير فإن المشهد يتكرر بحسب الوصف التالي: "إذا الشمس كورت،
و إذا النجوم انكدرت، و إذا الجبال سيرت، و إذا العشار عطلت، و إذا الوحوش حشرت، و
إذا البحار سجرت، و إذا النفوس زوجت، و إذا الموؤدة سئلت، بأي ذنب قتلت"([20]).
تلك هي المشاهد المختلفة و المؤكدة جميعا أن
الكون يسير حثيثا نحو نهاية رسالته، و أن هذه النهاية تكون بوقوع الساعة. و قد جعل
الله تعالى نهاية الكون و دماره علامة للساعة فدل بذلك أن نهاية الكون هي بداية
الإنسان و لكن أي إنسان؟ و الجواب إنه الإنسان الحقيقي، الإنسان الذي تجاوز تاريخه
الخاص إلى التاريخ الحق أو على الأصح إلى أمر الحق سبحانه وقضائه و قدره. أما
التاريخ الإنساني الخاص فسوف ينتهي هو أيضا بنهاية الأرض ودك ما فيها و ما عليها.
قال ذو القرنين يتحدث عن سوره الحديد الذي بناه: "ثم أتبع سببا، حتى إذا بلغ
بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا، قالوا يا ذا القرنين إن
يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا و بينهم سدا،
قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم و بينهم ردما، آتوني زبر الحديد
حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا،
فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا، قال هذا رحمة من ربي، فإذا جاء وعد
ربي جعله دكا. وكان وعد ربي حقا" ([21]).
كذلك سوف تسقط كل الآثار التي عظمها الإنسان
و كل روائع الفن الإنساني، و كل الهندسات و كل القلاع و الحصون و السدود التي ظن
الناس أنها مانعتهم، و سوف يبقى الإنسان فقط، الإنسان وحده فردا عاريا من كل
تاريخه و من كل ما أضاف إلى نفسه و أقام فيها ليقابل ربه بحقيقته لا أكثر و لا أقل،
و حقيقته عمله. يقول تعالى: "و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول
مرة و تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم و ما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم
شركاء لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون"([22]).
بقدوم الساعة ينتهي التاريخ، و يزول مسرح هذا
التاريخ و هو الكون و يفتح كتاب الإنسان لكي يحاسب على عمله و ما قدمت يداه. و من
خلال ما تقدم يمكن تلخيص الكلام بالقول إن الساعة هي مرآة الحق غيّبها و أظهر بعض
آياتها و علاماتها، و سوف يكشفها و يجليها سبحانه و تعالى ليرى فيها كل شيء حقيقته:
"يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها
إلا هو ثقلت في السماوات و الأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك خفي عنها قل
إنما علمها عند الله و لكن أكثر الناس لا يعلمون"([23]).
إن الساعة هي لحظة تجلى الله تعالى و هو الحق
تجليا لا خفاء فيه؛ فإذا تجلى سبحانه وتعالى انشقت السماء فهي يومئذ واهية، و برز
الملك على أرجائها و بدا عرش ربك و عرف عدد من يحمله كدليل على ظهوره بلا لبس و لا
مين ،قال تعالى معبرا عن هذه الحقيقة "و انشقت السماء فهي يومئذ واهية، و الملك
على أرجائها و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية"([24]).
فإذا تجلى الحق مستويا على عرشه فحينئذ يؤوب
كل شيء بالضرورة الحقية التي لا راد لها إلى أصله و حقيقته فالحق المطلق سبحانه و
تعالى لا يصمد أمامه باطل: "يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية "([25]). و من
هنا كان تجلي الحق سبحانه و تعالى للكون سببا في انهيار هذا الكون و فنائه لأنه
سبحانه أقامه بالنسبة و الاعتبار و جعل له أجلا و أمدا. و تجلي الحق سبحانه بمطلق
ذاته يلغي الآجال و الآماد، و يفنى الزمان و المكان. فما الزمان على وجه التحقيق
سوى غيبة الحق بحسب مشيئته عن العالم، فإذا حان أوان الرجعى و انقضى أجل الغيبة
انتهى الزمان و ظهرت أبدية الحق كما هي عليه أزلا و أبدا، فحرم أن يتحرك شيء أو أن
يضطرب مخلوق. إن الإنسان كذلك يوم القيامة لن تغني عنه الإضافات شيئا و لن يكون له
من الحق سوى نفسه التي ليس لها من الحق
سوى عملها. يقول سبحانه و تعالى: "يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها و توفى
كل نفس ما عملت و هم لا يظلمون"([26]).
و بما هي لحظة انكشاف الحق سبحانه و تعالى
انكشافا كليا نهائيا، فان القيامة هي أولا وبالذات قيامة الله و ظهور مجده و سلطانه.
فإذا ظهر الله تعالى، ظهر كل شيء سواه على حقيقته، و من هنا كانت الساعة كارثة
عظمى بالنسبة للكافرين الذين لم يعوّلوا على مقابلة الحق سبحانه و تعالى رغم أنه
نبههم و حذرهم حيث قال في محكم كتابه: "يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة
الساعة شيء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت و تضع كل ذات حمل حملها و ترى
الناس سكارى و ما هم بسكارى و لكن عذاب الله شديد"([27]).
و الحديث عن الساعة في افتتاح سورة الحج ليس
صدفة بل كان لقصد واضح، فإذا كانت سورة الحج تدعو الناس في ظاهرها إلى الحج إلى
بيت الله الحرام، فإنها في العمق تنبه إلى الحج الكوني الذي انطلق منذ
انطلقت حركة الكون. إن الكون بكل ما فيه حاجّ إلى ربه، وكعبة هذا الحج التي
يطوف حولها الكون الحاج هي الساعة. فالساعة هي آخر نقطة يصل إليها الكون في
حركته و صيرورته نحو نهايته، و هذه النقطة الأخيرة في عمر الكون هي نفسها نقطة البداية.
فالكون الذي بدأ جزءا ملياريا من الذرة سوف يعود بعد اتساعه الرهيب ذرة بل أقل من
ذرة، و هذا الانقلاب أو بالأحرى الارتداد المفاجئ و السريع و الذي سوف يحول المادة
الكونية إلى طاقة من جديد، يذهب بالعقول و الألباب و ليس قوله تعالى:" يوم
ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت و تضع كل ذات حمل حملها و ترى الناس سكارى و ما هم
بسكارى ولكن عذاب الله شديد"، من قبيل المبالغة و لا المجاز، بل هو الحق
اليقين.
فالإنسان
سوف يشاهد بأم عينه قيامة الكون و نهايته و انطفاءه، هذا الكون الذي حمله وكنفه في
حياته الدنيا، و أنس إليه حتى لم يعد يسأل عن كثير من أسراره، هذا الكون الواسع
يضيق حتى يصبح ذرة لا بل جزءا ضئيلا من الذرة لا يكاد يعد شيئا أصلا. إن مشاهدة
هذه النهاية و التي سوف تكون برهانا على عظمة الديّان و قدرته التي لا توصف سوف
تخلع قلوب الكافرين و تقضي على أي أثر للطمأنينة في قلوبهم. و سوف تهد كياناتهم
الهزيلة حتى إذا وقفوا بين يدي الله تعالى كان وقوفهم وقوف العبيد الأذلاء أمام
مولاهم الذي رفضوه و لم يؤمنوا به. و بما أن هذه المشاهد و الوقائع تعد من عذاب
الله لخلقه، فانه سبحانه و تعالى سوف ينجي المؤمنين من عذاب يوم القيامة و سوف
يكنفهم الحرم الآمن حتى يبلغوا دار السلام
بإذن الله لا يصيبهم رهق و لا ذلة.
إلا أن السؤال الذي يطرح هو لماذا قضى الله
تعالى أن يكون الإنسان شاهد يوم زوال الكون ؟ و هل كان هذا الإنسان شاهدا يوم بناء
الكون أيضا ؟ و للإجابة عن السؤال الأول نقول إنه من الواضح أن شهود الإنسان بنفسه
لزوال الكون و انهياره وعوده على بدء ذرة صغيرة في يد الديان، سوف يعطيه صورة لا تمحى
عن عظمة الله تعالى و عزه و قوته، و سوف تجعل من بصره بصرا حديدا، بعد أن كان في الدنيا يغشاه ما يغشى من
الضلالات و الغفلة والنسيان. يقول تعالى: "و نفخ في الصور ذلك يوم الوعيد،
و جاءت كل نفس معها سائق وشهيد، لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك
اليوم حديد"([28]).
فبرؤيته لانهيار الكون، تنهار أمام الإنسان
كل الحواجز و الأسباب الكونية التي كانت تمنعه من رؤية الحق سبحانه و تعالى. و عندما
يزول كل شيء سوف يجد و يرى بعينه أنه قد بقي كل شيء لأن الحق سبحانه وحده هو كل
شيء و الكون الذي كان يستصنع منه آلهته ليس شيئا بل هو الآن لا شيء فعلا.
من المعلوم أن الدين يأتي ليهدي الإنسان و هو
المخلوق الكوني المصنوع من تراب الأرض و طينها، إلى الحق سبحانه و تعالى، و لكي
ينبهه إلى عرضية الحياة الدنيا و وقتيه هذا المسكن الكوني. و لكن الإنسان لغفلته و
جهله الشديد و ظلمه ينحبس في الكون، و يستصنع منه آلهة يعظمها و يكبرها في صدره، و
يعشق الحجارة و الحديد ثم لا يلبث أن ينكر الحق سبحانه و تعالى و أن يكفره و هو
الذي يشرف عليه و يكلؤه بالليل و النهار. فإذا جاءت الساعة فأول وقتها سوف يكون
محوا، حيث سيمحو الله تعالى آية الليل و هو هذا الكون فلا يبقى له رسم في لوح
الوجود، حينئذ سوف يتعرى الإنسان و يزول عنه لباسه و يزول اللبس الذي أعمى قلبه
وعينيه. و في تقديري و الله أعلم، أن رحلة انهيار الكون سوف يصاحبها في نفس الوقت
انهيار الحجب الجسدية و الحسية التي لبستها النفس الإنسانية في تعلقها بالأرض و إقبالها
على الدنيا. فإذا زال الجسد ظهر الروح و تجلى القلب و لا يتجلى إلا لتجلي الحق
سبحانه، و حينئذ تخشع القلوب للحي القيوم، فإذا زال حجاب الحق فلا يبقى لشيء حجاب
أصلا، و هذا دليل على أن الحجاب إنما تلبس بالخلق لا بالحق. فالحق سبحانه و تعالى
لا يحجبه شيء، فهو متجل أبدا وأزلا و هو على ما هو عليه لا يغيره شيء و لا تناله
الحد ثان، و إنما كان الحجاب من نفس الخلق، فالخلق إنما حجبوا عن الحق بأنفسهم
التي كان قصورهم الطبيعي سببا طبيعيا أيضا لانحجابها عن رؤية كلية الحق المتجلي، و
الأمر هنا مماثل لحال القارئ مع القرآن، فالقرآن الكريم يحتوي الحقيقة كاملة لكن
القارئ له و هو المؤمن، لا يقدر أن يستوعب كلية هذه الحقيقة و ليس له منها إلا
التسليم بوجودها، و أن القرآن الكريم يحتويها بدون أدنى شك.
إن الساعة نبأ عظيم و هي لحظة الفزع الأكبر
الذي خوّف الله تعالى منه الناس بكل الطرق والوسائل، فعلاوة على وعظه المباشر في
كتبه التي أنزلها لعباده، ضرب الله تعالى أمثالا تقريبية من خلال أصناف العذاب و العقاب
التي يصيب بها الناس في الدنيا؛ فجعل سبحانه وتعالى الزلازل أمثلة و أدلة على هول
ما سيقع عند زلزلة الساعة، كما جعل الله تعالى ما يصيب به عباده بغتة من أصناف
العذاب و الابتلاء أدلة على العذاب الرهيب و المباغت الذي سيصيب الكافرين يوم
القيامة، قال سبحانه و تعالى: "أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله
بهم الأرض يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم"([29]).
تنبه هذه الآيات البينات إلى أن عذاب الله
تعالى و عقابه ليس بعيدا من الظالمين في الدنيا والآخرة. فالأرض قبضته سبحانه و تعالى،
و هو قادر على زلزلتها متى شاء، كما أنه سبحانه أخذ و ما زال يأخذ الكثيرين في
تقلبهم فما أعجزه أخذهم. فكم من مسافر ضارب في الأرض أخذه الله تعالى فحال بينه و بين
مطلوبه فأصابه ريب المنون، أو حدث له من الحدثان ما لم يكن يحتسب. و كم من مترف ظن
أنه قادر على ما يملك و ما أترف فيه، فأخذه الله تعالى بغتة و هو لا يشعر و ما
قارون إلا مثل من أمثلة عديدة سبقته و تلته. يقول سبحانه و تعالى مبينا إنذاره بالعذاب
الأدنى دون العذاب الأكبر: "و أما
الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها و قيل لهم
ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون، و لنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب
الأكبر لعلهم يرجعون، و من أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين
منتقمون"([30]).
فجعل سبحانه و تعالى العذاب الأدنى دليلا على العذاب الأكبر، و جعل الحكمة من
إيقاعه في الدنيا تذكيرا بما سيقع في الآخرة. فكان وقوعه في الدنيا آية و دليلا
على الآخرة، إلا أن أكثر الناس عن آيات ربهم غافلون.
بيّنا
فيما مضى قيمة الساعة في التأسيس الوجودي العام للعالم المخلوقي و مصيره، كما بينا
إستراتيجية و عمق موقعها كنقطة تتقاطع عندها لحظتا البدء و الإعادة ، فالخلق منها
بدأ وإليها يؤوب حيث جاءت العودة و تجلت كاستعادة للبدء، للحظة الأولى المنسية في
غياهب الزمن الوهمي أو الحجاب الذي قام حاجزا بين الخلق و رؤية الحق رؤية كاملة لا
لبس فيها ولا ضلال. و نريد أن نركز الآن على قيمة الساعة من حيث كونها لحظة العلم
و اليقين أي لحظة رؤية الإنسان لحقيقته و حقيقة الكون، و من باب أولى و أحرى للحق
سبحانه و تعالى. إن كل الحقائق تتقاطع أو قل تلتقي في لحظة واحدة قدّرها العزيز
العليم بحكمة بالغة و إتقان عجيب ليحصل من التقائها
إلغاء الحجب وفصل الخطاب. لذلك كانت الساعة يوم الدين.والدين هو تحقيق
حقيقة المتدين . فكل صاحب دين يظهر دينه يوم القيامة. فدين الكون الفناء
والاضمحلال وهذا ما سيحصل له يوم القيامة
،ودين الإنسان التزام بحق باق أو ركون إلى باطل زائل هالك وهذا ماسيقع إبرازه
وإخراجه يوم القيامة، ودين الله تعالى هو الحق المبين لذلك سيكون سبحانه هو الحاكم
على ما سواه " ملك يـــــوم الدين " ([31]).
وبما هي كذلك فان الساعة
سوف تضع كل مخلوق في موضعه وتلزمه موقعه
بإظهار حقيقته. لذلك كانت المجال
الأكبر والأبرز للشهادة ، فكل أمة سوف يخرج منها شهيد عليها يحكم بشهادته
على أفعالها وأعمالها , وسوف يكون الأمي صلى الله عليه وسلم على كل الأمم شهيدا. وباختصار،
إن مرتبة الإنسان من الحق سوف تبرز يوم القيامة بقدر شهادته في الدنيا للحق. يقول تعالى :" ويوم نبعث من كل أمة
شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ,وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا
يخفف عنهم ولا هم ينظرون , وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء
شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون , وألقوا إلى
الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون , الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله
زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ، ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من
أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة
وبشرى للمسلمين" ([32]) .
فحقيقة الإنسان كونه عبدا
شاهدا إما للحق سبحانه وتعالى إذا آمن وعمل الصالحات، وإما شاهدا للشيطان إذا ما
أشرك وأفسد وطغى. ولذلك كان يوم التغابن بظهور المراتب الحقيقية للناس. فلا مجال يومئذ للكبر ولا للادعاء "وألقوا
إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون".
يبدو من خلال رحلة الزمان
أن الإنسان يتجه نحو الآخرة، لكن الحقيقة الأخرى أيضا أن الإنسان يمكنه أن يتجه من
الآخرة نحو بدئه ودنياه. فإذا تأملنا حياة الإنسان كاملة فسنجد أن حقيقته التامة ومصيره
الحقيقي ووعيه الكامل والصحيح بنفسه
وحياته وشأنه لا يكون إلا في الآخرة، أي عند الساعة :" ونفخ في الصور ذلك
يوم الوعيد. وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد. لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك
اليوم حديد " .
هذا البصر الحديد هو الذي
يحتاجه الإنسان حقا ليستطيع توجيه حياته الوجهة الصحيحة ولينجو من ظلمات البر
والبحر , وإذا كان البصر الحديد يرجع لكل إنسان في الآخرة بإرادة الله تعالى وقدرته حتى يرى كل فرد حقيقته بدون
أغطية ولازيف، فإن المؤمن العامل أولى بأن
يسعى لاكتساب البصر الحديد في الدنيا حتى لا تكون الآخرة ساعة عذابه ويوم عقابه.
عليه إذن أن يحيا هنا، في الدنيا، ببصر حديد يعلم به من هو، ولمَ وجد وإلام يصير
وما هي مرتبته الكونية ؟ باختصار، عليه أن يعرف كل شيء أي أن يكتسب الحقيقة. هذه
الحقيقة التي لا يكتسبها إلا صاحب البصر الحديد هي وحدها المنجية، وهي وحدها التي
تحفظ الإنسان من تحريف كيانه أو تزويره الأمر الذي يسعى إليه الشيطان و أعضاده بكل
ما أوتوا من خبرة ودهاء .
إن المشروع الشيطاني
القاضي بإغواء الإنسان وإضلاله نافذ لا محالة إلا في حالة واحدة هي ظهور الحقيقة
واضحة جلية، حقيقة الإنسان وحقيقة الشيطان، ولا تظهران إلا بتجلي الحق سبحانه والإيمان
به أي بسطوع حقيقة التوحيد وأن الله الواحد الأحد هو رب هذا الكون ومسيره.
إن السلوك والنجاة لا يمكن حصولهما في غياب
المسلك الواضح والحقائق الساطعة؛ ولذلك احتاج الإنسان إلى نور يكشف له ما غُيّب
عنه من مصيره. ولذلك جاءت الأديان السماوية الإلهية لتكشف عن أهم محطات الغيب
وتجعله واضحا بينا لايغيب منه شيء إلا تأويله . فالحقائق الغيبية ليست غائبة إذن،
فلقد جاءت الكتب الإلهية معلمة بها وإنما غاب تأويلها أي ظهورها. وهذه الغيبة
ضرورية إلى أجل حتى يقضي الله تعالى أمرا كان مفعولا. والمؤمن إذ يؤمن بالغيب
يقوم باستعادة الحقيقة كاملة عبر مجهود الإيمان المتمثل في استعمال الحقيقة
والاستنارة بها رغم عدم ظهور تأويلها كاملا واقتصار تجليها على آيات ودلالات
وإشارات .
إن الإيمان رؤية باهرة
بعين القلب، وهو آلة الحق سبحانه وتعالى في الإنسان لرؤية كل الحقيقة في وقت واحد
. فيرى المؤمن حقيقته ومصيره، ويتعرف إلى الكون و مصيره.كل ذلك ضمن وعيه وإيمانه
العميق بالله تعالى ربه ورب الكون . ولذلك، وبما أن المؤمن يسلك على هدى من إيمانه
ومعطيات هذا الإيمان، فالقول الأثبت والأصح أنه ينطلق من آخرته إلى أولاه، حيث أن
الآخرة هي المبدأ الحاكم على كل حياة
المؤمن الدنيوية وما يكون له فيها من عمل وكسب . إن الدنيا تتأسس بدءا بالآخرة
وعلى هدى من معطياتها وحقائقها . فالمؤمن كائن أخروي يزور الدنيا بكيانه ووعيه
ليقضي فيها حجا مفروضا قضاه الله تعالى عليه , فإذا قضى حجه آب إلى آخرته مظفرا
منصورا .
فبوعيه ينطلق المؤمن من
آخرته إلى دنياه. وبعمله ينطلق من دنياه إلى آخرته؛
فيكون يوم القيامة بالنسبة له عودا على بدء ,إن بناء الذات بناء صحيحا لا يتحقق في
غياب الوعي الأخروي الذي يؤكد القرآن الكريم أنه حجر الزاوية في أي بناء
يراد له الدوام :" الم، ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين .الذين يؤمنون
بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون"([33]).
والغيب الذي تشير إليه
الآية بصيغة الإجمال يدخل فيه الإيمان بالآخرة كمركز رئيسي ومنطلق أساسي لبقية
الفتوحات الغيبية , إن الانقلاب الحقيقي الذي يدخله الدين السماوي الإلهي على حياة الناس هو دعوتهم إلى الإيمان بالغيب الذي يعني أول ما يعني الإيمان بأن الله يبعث من في
القبور . هذا وإن الاعتقاد بأن الله يبعث من في القبور يمكّن الإنسان من طاقة
هائلة لا يمكن تقديرها. فمعلوم أن كل الفلسفات الإنسانية تموت على أعتاب القبر؛ وما ذلك إلا
لأن غاية جهد الإنسان ومنتهى إدراكه يتوقف على أعتاب باب الموت عاجزا يائسا ,أما
ماوراء المـــــوت فعالم لا مدخل للإنسان إليه إلا بالإيمان والتسليم والاعتراف
والإسلام .فإذا أسلم الإنسان وآمن، قاده إيمانه إلى عمق لم يكن يحلم به والى ثراء
لم يكن يدور بخلده.فلقد جعل الله سبحانه وتعالى البعث الآخر هدية لأولئك الذين
اعتقدوا أن إلها قويا عزيزا هو الذي يحرك الكون وهو وراء الكون يديره كيف يشاء , فجاءهم هذا الإله العظيم من وراء
الموت يبعثهم ويحييهم ويدخلهم الجنة عرّفها لهم .أما أولئك الذين كفروا ربهم وتعلقوا
بآلهة كاذبة زائفة اختلقوها بوحي وإيعاز من شياطينهم، فسوف تكون القيامة وبالا ولعنة
عليهم، وسوف ينتقم الحق سبحانه وتعالى منهم أشد انتقام في هذا اليوم المشهود الذي
سيكون نصرا للمؤمنين وسحقا للمجرمين . إن القيامة من حيث هي بعث وإحياء، أي من حيث
هي نهوض بعد موت وحياة بعد فناء وبقاء لا يعقبه فناء، هي قيامة المؤمنين وهي يوم
عزهم ونصرهم ويومهم الذي تبيض فيه وجوههم.
وإذا ما استيقنت النفس
الإنسانية قيام الساعة وآمنت بها إيمانا لا يداخله الشك، فإنها ستحدث أكبر تغيير
يمكن أن يحصل لها على الإطلاق؛ لأنها بإيمانها بالآخرة سوف تفتح باب المطلق باب الخلود،
باب البقاء على مصراعيه، وسوف تكتسب بالتالي أبعادا سماوية علوية لم تكن لتطمح إلى
عشر معشارها لو بقيت ملتصقة بالأرض وحدودها، مؤمنة فقط بالحياة الدنيا الفانية
الزائلة. إن الإيمان بالآخرة هو الفتح الحقيقي الذي يخرج الإنسان من كونه
حيوانا إلى كونه إنسانا ويجعل منه قيمة متميزة في عالم الحيوان الذي يعيش ضمنه
وفيه . وما لم يدخل البعد الأخروي في حياة الإنسان فلن يقع أي تغير يذكر على
حياته الرتيبة كحيوان يسعى بنهم إلى تلبية شهواته وتحصيل لذّاته , إن الوعي الغيبي
الذي جوهره الإيمان باليوم الآخر والوعد الآخر، هو الذي يبعث في الإنسان إرادة
الحياة ويجعل من حياته الدنيا مرحلة بناء وتأسيس وعمل. فأهل الآخرة من المؤمنين
يغلقون قلوبهم على اليقين بالبعث ويجعلون من الآخرة اللحظة الأهم والأقدس والموعد
الذي لا يماثله موعد.
إن كل مشروع بناء الذات
وتأسيسها في الإسلام يرتكز على قاعدة الإيمان بالآخرة.
فالآخرة هي التي تعطي للأولى معناها وقيمتها وتحدد وظيفتها. فعمل المؤمن في الدنيا
يهدف إلى تحقيق ثمرة هي الأغلى وهي ألذ المطلوب، وهذه الثمرة هي البعث من جديد
والاتحاد برب الوجود اتحادا لا فناء بعده . وهذا الإيمان اليقين بالبعث يحطم كل
الأسوار وكل معاني العبثية ودواعي الارتخاء والموت التي تغزو الإنسان في الحياة
الدنيا. ولو أردنا أن نحوصل قيمة الإيمان بالبعث في كلمة لقلنا إنه يعطي للإنسان
القدرة على قبول الموت، لأن قبول الموت شرط تجاوزه. ولا يقبل الموت ولا يرضى به
إلا مؤمن بالبعث يعلم أن الموت لحظة انتقال من حال إلى حال. أما بقية الناس
فيدهمهم الموت ويخطفهم ويأخذهم على تخوّف، ولو تركوا أحرارا لما نزلوا تحت حكمه
وما رضوا به .
فالإيمان بالبعث هو وحده
الذي يفسر لنا كيف يصبح الموت شهادة بالنسبة للمؤمن، وكيف تصبح لحظة الفناء لحظة
البقاء إذ هي لحظة لقاء الله تعالى، ومن أحب لقاء الله أحب الله تعالى لقاءه كما
جاء في الأثر.إن لحظة الشهادة التي هي في قمتها لحظة تقديم النفس لله تعالى أي
لحظة الرضا بالموت شهادة لله بأنه قادر على إحياء الموتى وبعث من في القبور , هي
قمة مسيرة بناء الذات ومنتهى إسراء الساري نحو كعبة ذاته ومحجة كيانه .لذلك تبين
أن عقيدة البعث هي جوهر مشروع بناء الذات كما أسلفنا لأنها تعطي معنى للحياة
والموت بإدخال مفهوم جديد وبعد ثالث هو بعد ما وراء الحياة الدنيا.ومن المستحيل أن
يفسر سر استقرار المؤمن وسكينته وأمله الدائم وسعيه الذي لا ينقطع لإتيان الصالحات
إلا على ضوء إيمانه بالبعث. ومن هنا صحّ أن نقول إن المؤمن ينظر إلى الدنيا في مرآة البعث والقيامة الأمر الذي يعني أيضا أنه ينظر
إلى جسده في مرآة روحه، وإلى نفسه في مرآة ربه العلي الأعلى .ونظرا لقيمته الجوهرية
والأساسية في تكوين الكائن، كان الإيمان بالبعث وكان ذكر الساعة هو الآية الأولى
في عديد سور القران الكريم تذكيرا من الله تعالى بهذه الحقيقة، وتنبيها للغافلين
إلى أن لا يغتروا بتسريح الله تعالى لهم إلى حين.جاء في أول سورة النحل "أتى
أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون"([34]),
وجاء في استهلال سورة الأنبياء :"اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون"
([35]). وجاء
في الآية الأولى من سورة الحج "ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة
شيء عظيم " ([36]).
وجاء في سورة القمر " اقتربت الساعة وانشق القمر" ([37]),
وجاء في سورة الواقعة :" إذا وقعت الواقعة " ([38]),
وجاء في سورة الحاقة " الحاقة ما الحاقة، وما أدراك ما الحاقة"([39]) ، وجاء
في سورة القيامة " لا أقسم بيوم القيامة "([40]) .
وكذلك في سورة التكوير
والانفطار والانشقاق والطارق والغاشية والزلزلة والقارعة وغيرها استهلال بذكر القيامة
إما تحذيرا من هولها أو إعلاما بأهميتها أو قسما بيوم وقوعها.فتبين من كل هذا أن
الساعة هي النبأ العظيم " عم يتساءلون ,عن النبأ العظيم ,الذي هم فيه
مختلفون ,كلا سيعلمون ,ثم كلا سيعلمون" ([41]). وهي
أهم معلومة تأسس العقل الإنساني لحملها واستيعابها. وهي باب إلى ما سواها من علوم
الغيب والشهادة. وهي في كلمة، باب إلى الحقيقة. إن الإيمان بالله في حد ذاته
وعبادته يمران عبر الإيمان بالآخرة .فما لم يخف الإنسان عقاب الله تعالى وما لم
يرج رحمته ونعيمه، فإنه لن يجعل من عبادته لربه قضية مركزية وأساسية في حياته.
ولذلك فإن التقوى إنما تحصل بتوقي اليوم الآخر وأهواله وما يمكن أن يقع فيه. وما
الآيات الكونية على تعددها واختلافاتها إلا تنبيه إلى أن القيامة قادمة وأن الساعة
موعد لاشك فيه.إن القرآن الكريم باعتباره جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور،
وباعتباره تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون، جعل مهمته الأساسية تنبيه الإنسان
إلى لحظة الذروة في حياته، وإلى المقصد الأسمى الذي تقصد إليه سفينة ذاته وهو
الوعد الحق والساعة التي لن يتخلف عنها بشر .وإذا كان الإنسان قد كتب عليه أن يبدأ
مسيرة الوعي من جديد منطلقا من الأرض إلى السماء، من الظلمات إلى النور، وهو
المشروع الذي حمله كأمانة بعد أن ضيع جنته الأولى باتباعه للشيطان وعدم تسليمه
للديان، فإن الهدى الإلهي المتمثل في الكتب السماوية والتي بين يدينا منها اليوم
نسختها الجامعة متمثلة في القرآن الكريم
عظمه الله وشرفه، جعل برنامجه أن ينطلق من الاتجاه المعاكس أي من حيث سوف ينتهي
الإنسان. فالقيامة وهي ساعة الإنسان
ومنتهى أجله وعمله، هي الآية الأولى في الهدى النازل من السماء. وقد رأينا
أن عدد السور التي استهلت بذكر القيامة وقرب موعدها ليس بالقليل.
وهذا الاستهلال بالنهاية
والبدء بالمعاد، هو على التحديد العلم الذي جعل من القرآن كتاب نجاة أي سفينة وعى سالك مهتد عليم بسبله خبير بمسالك
مسيرته.
إن القرآن الكريم قادم من
الآخرة إلى الأولى لكي يخرج الإنسان من الأولى إلى الآخرة ويهديه سبيل النجاة كيلا
تهلكه الغفلات ولاتعمي عينه وقلبه اللذات والشهوات.إن استقامة الأولى لا تكون إلا
بإقامة مقابلها وهي الآخرة. وبما أن الإنسان مُكّن في الأولى ووُعد بالآخرة، فقد
جاء القرآن الكريم بنبأ هذا الوعد وخبره وتفصيله. فأصبح المؤمن عليما بالآخرة وهو
بعد في الأولى، منتظرا للوعد الحق عاملا عليه طالبا لحسن المكانة فيه وهو في أحضان
الدنيا وبين ظهراني الخلق اللاهين الغافلين. فبم استعاد الإنسان المؤمن أخرته إن
لم يكن بالهدى المنزل ؟
فثبت أن القرآن الكريم هو
كتاب الآخرة الذي جاء معلّما المؤمن قائلا له "وللآخرة خير لك من الأولى
" ([42]). فلما آمن به الإنسان
وعده بحسن ثواب الدنيا والآخرة وبحياة طيبة في الدارين. وإذا سلك الإنسان على آثار
القرآن واتبع هداه، فإنه سوف يكتسب وعيا منجيا يجعله آمنا مطمئنا ويعطيه قوة وقدرة
التجاوب مع لحظات وجوده الثلاث الكبرى أعني الحياة الدنيا والبعث والممات بكفاءة
لا نظير لها.إن مختلف أشكال الوعي البشري المفصول عن الهدى الإلهي سوف تفشل وتذهب
أدراج الرياح حالما يدخل الإنسان المرحلة الثانية من مراحل وجوده وحياته الكبرى
وهي مرحلة الموت. وما الموت عند الله تعالى الالحظة كشف كبرى تتجلى فيها الحقيقة
للإنسان بنسبة غير متوقعة فيرى من الحقائق ما لم يكن يحلم به،إلا أنها رغم ذلك لا
تمثل بالنسبة للآخرة إلا نقطة في محيط، فالحقيقة النازلة على أقدار تبرز في الدنيا
بحجاب وتخاطب الخلق من وراء هذا الحجاب، ثم تكشف من نفسها للإنسان عند موته بقدرما
ينكشف من سره وينهد من ستره، ثم تبرز يوم القيامة وتخرج بكل جبروتها وجلالها وجمالها
وكامل أوصافها لتكشف عن الإنسان كامل غطائه وتجعل من بصره حديدا لا يلتوي ولا يحيد
:" لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد "([43]) .
ولما كان المؤمن متبعا
للهدى المنزّل من الله سبحانه وتعالى، مصدقا بكتبه وكلماته، فإنه يستمد عقيدته
كاملة من العلم النازل من السماء، فلا يكون له وعي مخالف لحقائق وعلوم القرآن
الكريم. وهذا الوعي يجعل حقائق البعث والممات حاضرة بين يديه وهو بعد في غمرة
الحياة الدنيا. فحينئذ لا يضلّ ولا يتيه لأنه يحيا ببصر حديد وهو بعد فوق الأرض.
هذا المؤمن يكتسب باستمداده للعلم الإلهي القرآني يقينا
يجعله عليما بحقائق بقية مراحل حياته ووجوده البرزخي والسماوي. فإذا ما جاءته سكرة
الموت بالحق، قابلها بما علّمه ربه ونظر إليها بعين القرآن، فلم ير في ما يحضره
ويمر به غريبا، ولا يهتز لما يحصل له، ولا يناله هوان وذل كما لا تصيبه صدمة من دخل
عالما وكونا لا يعرف منه شيئا. على العكس، إنه سوف يجد الحقائق والمعطيات التي
قدمها القرآن مجسدة، فيكون حاله كمن يرى شريطا سبق أن رآه فلا يصدمه مشهد ولا
يفاجئه حدث. فبهذا يحصل له اطمئنان كبير رغم أنه سوف يتبدل في الأكوان وتتغير
أمامه كل الصور ويدخل في دائرة بعيدة كل البعد عما كان يعيشه في الدنيا. ثم تأتي
الساعة وينفخ في الصور، ذلك يوم الوعيد. وتأتي كل نفس معها سائق وشهيد. حينئذ سوف
يحدث من الأحداث ما تشيب لهوله الولدان. ورغم هول يوم القيامة ورغم كل ما سيقع فيه
من أعجب العجيب، فإن المؤمن سوف يأتي مطمئنا يوم القيامة آمنا، لا يخاف بأسا ولا
رهقا، وما ذلك إلا لامتلاء قلبه بحقائق وأنوار القرآن العظيم. يقول سبحانه وتعالى
:" إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم
من يأتي آمنا يوم القيامة. اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير" ([44]).
إنه لفضل أعظم الفضل وحظ
أعظم الحظ أن ينجو الإنسان من أهوال يوم القيامة رغم أنه حاضره ولابد، ولا أمن له
إلا بتأمين الله تعالى له. وقد ثبت في الكتاب العزيز أن من دخل البيت العتيق فهو
آمن حيث قال " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين. فيه
آيات ببنات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا. ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا ومن كفر فان الله غني عن العالمين" ([45]).
وقال سبحانه وتعالى:"
وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا تجبى إليه
ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون" ([46]), هذا
الحرم الآمن سوف يبقى آمنا يوم القيامة بإذن الله ، وبذلك سوف يضمن أمن وسلامة من
دخلوه في الدنيا، ولا يدخله إلا مؤمن. فالمؤمنون جميعا آمنون يوم القيامة بإذن
الله تعالى وببركة هذا الحرم الذي جعله الله تعالى محجة لآل إبراهيم يحجون إليه
جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة.ثم إن الساعة إذا كانت حجر الأساس ونقطة
الارتكاز في تمثل الإنسان لوجوده وبالتالي في بنائه لشخصيته، فإنها تقدم للإنسان
المؤمن بها خدمة هي أعظم الخدمات إذ تحرره من كل ألوان الحصر وأنواع الوجود الزائف
, إن أخطر ما يتعرض له الإنسان وهو في الدنيا أن يتم تهميش وجوده وتضييع ثمرة جهده
وعمله وسعيه. ويتهمش وجود الإنسان
بالضرورة إذا زال البعد الأخروي من
حياته، لأنه حينئذ سوف يرضى بالحياة الدنيا ويطمئن
بها وسوف ينسى
أنها مرحلة بسيطة من مراحل حياته لا غير .
وإذا ما رضى الإنسان
بالحياة الدنيا ونسى ما وراءها، فسدت حياته وتهدمت أركان وجوده وأظلمت نفسه وآل
إلى الدمار والخراب. وما بعثه بعد ذلك من قبل ربه إلا لكي يرى سوء ما فعل وفظاعة
ما آل إليه تحكمه واعتداده بعمله.
فإذا استيقن برؤية الحق وعرف فساد مذهبه ألقي في نار قال
فيها القرآن الكريم "لا تبقى ولا تذر " ([47]).لذلك
كان الإيمان بالساعة يعني سلوك طريق الفلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة.وعبر
الإيمان بالآخرة يهيمن الإنسان بالوعي والإيمان على لحظتي الحياة الدنيا والموت،
فيسوس دنياه ولا تسوسه، ويهيىء بإيمانه وعمله الصالح فيها لميتة يكتب فيها مع
الشهداء، ثم يبلغ الآخرة فلا يجد من ربه
إلا الرضا بإذن الله تعالى.يقول تعالى مؤكدا على أن الكافرين بالآخرة يصيبهم
الخسران المبين في الدارين وأن المؤمنين العاملين ينالون حسن الجزاء " إن
الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالـــــحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن
آياتنا غافلون.أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون.إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم " ([48]).
فالترقي والتطور الحقيقي للإنسان ونماء ذاته وشخصيته يتم في معراج نقطة الذروة فيه
الساعة وما تحمله من وعد الآخرة . ولذلك كانت الآخرة موعد اللقاء مع الله ،أي مع
الحق سبحانه وتعالى بدون حجب ولا وسائط .
وهذا اللقاء المرجو مع
الله تعالى، يعني أن الإنسان قد طور ذاته وبنى نفسه بناء يؤهلها لمخاطبة الحق
سبحانه ولقائه والتشرف في حضرته.هذا اللقاء بالحق سبحانه يعني أيضا أن الإنسان قد
تجاوز بإيمانه وعمله الصالح مراتب دنيا من الوعي والفهم لكي ينفتح الآن وبدءا من
الساعة، على الوعي الكلي أو قل على
الحقيقة التي لا زيغ فيها لانقص .
ومن هنا قال الله تعالى في
الراضين بالحياة الدنيا:"إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا
واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غا فلون ".ربط سبحانه وتعالى بين
الغفلة عن لقائه وإنكاره، والرضا بالحياة الدنيا والغفلة عن آياته فيها .فتبين أن
لقاء الله سبحانه وتعالى لقاء المسلمين الراضين، هو أكبر عز ينال النفس الإنسانية
لأنها ما لقيــــته الا بالترفع عن الرضا بالحياة الدنيا؛ وما وصلت إلى الإيمان به
إلا عبر التأمل في آياته.فكان لها من هذا الترفع وهذا التأمل كمال لم تعهده وصفاء
وروحانية أهلاها لمعاشرة الملإ الأعلى والاندماج فيه.
فصح حينئذ أن نقول إن الساعة هي ساعة وموعد بعث الإنسان،
وهي ساعة سعادته ونهاية شقائه وبدء طمأنينته.
وإذا
كان لكل كيان موعد يثمر فيه فيظهر بثمرته حقيقة ذاته وما انطوى عليه عوده، فإن
الساعة هي موعد ظهور ثمرة الإنسان، فمنها
طيب ومنها خبيث نعوذ بالله من خبث النفوس وشرها ونعوذ به سبحانه من سوء المنقلب
اللهم آمين.
إن
الساعة أيضا تفصل بين الناس فتميز الطيب من الخبيث، وتضع بين المؤمنين والكافرين
سورا باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب. لذلك كان لابد لكل بحث في الآخرة أن
يؤدي إلى إثارة مسألة الكفر والإيمان. هذه المسألة التي تبرز ضمن رسالة ذات طابع
غيبي أخروي باعتبارها المسالة الجوهرية والإشكالية الأساسية موضوع الامتحان
والاختبار وموضوع النظر والاعتبار , ولكن لذلك بحث آخر بإذن الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق